كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والحاصل أن إسناد باع إلى ضمير المتكلم يقتضي أنه أوقع البيع مع أنه لم يوقع إلا أحد ركنيه فكيف يصح الإسناد، ووجه انحلال هذا بما ذكر ظاهر إلا أنه أورد عليه أن فيه دعوى يكذبها وجدان كل عاقد عاقل ألا ترى أنك إذا قلت بعث مثلًا لا يخطر ببالك إيقاع ضمني منك لشراء غيرك إيقاعًا متوقفًا على رأيه أصلًا بل قصارى ما يخطر بالبال إيقاعه الشراء دون إيقاعك لشرائه على نحو فعل الفضولي ومن ادعى ذلك فقد كابر وجدانه.
وأجيب بأن الأمور الضمنية قد تعتبر شرعًا وإن لم تقصد كما يرشد إلى ذلك أنهم اعتبروا في قول القائل لآخر: أعتق عبدك عني بكذا فأعتقه البيع الضمني بركنيه وإن لم يكن القائل خاطرًا بباله ذلك وقاصدًا له.
وبحث فيه بأنهم إنما اعتبروا أولًا العتق الذي هو مدلول اللفظ والمقصود منه ترجيحًا لجانب الحرية ثم لما رأوا أن ذلك موقوف على الملك الموقوف على البيع حسب العادة الغالبة اعتبروا البيع ليتم لهم الاعتبار الأول ولم يعتبروه مدلولًا للفظ العتق أصلًا ليشترط القصد وأن أوهمه تسميتهم إياه بيعًا ضمنيًا بخلاف ما نحن فيه على ما سمعت فإن إيقاع القبول قد توقف عليه ماهية البيع الشرعي واعتبر مدلولًا ضمنيًا له بحيث صار عندهم كما يقتضيه ظاهر كلام الإرشاد نحو بعت بمعنى أوقعت إيجابًا مني أصالة وقبولًا منك نيابة وظاهر في مثل ذلك تحقق القصد وحيث نفى بالوجدان قصد إيقاع القبول نيابة علم أنه ليس مدلولًا ضمنيًا.
ومن الناس من تقصى عن الإشكال بالتزام أن البيع هو الإيجاب والقبول شرط صحته فقول القائل بعت إنشاء لبيع يحتمل الصحة وعدمها ومتى قال الآخر اشتريت تعينت الصحة وأن قولهم ركن البيع الإيجاب والقبول من المسامحات الشائعة أو بالتزام أن للبيع ونحوه إطلاقين، أحدهما: العقد الحاصل من مجموع الإيجاب والقبول كما في نحو قولك: وقع البيع بين زيد وعمرو وثانيهما: الإيجاب فقط كما في نحو قولك بعته كذا فلم يشتر والبيع الدال عليه بعت الإنشائي من هذا القبيل فلا إشكال في إسناده إلى المتكلم فتأمل وتدبر.
وفي هذا المقام أبحاث تركناها خوفًا من مزيد البعد عما نحن بصدده والله تعالى الموفق، و{الذين} يحتمل أن يكون في محل رفع على الابتداء والخبر قوله تعالى: {فكاتبوهم} وهو بتقدير القول بناءًا على المشهور من أن الجملة الإنشائية لا تقع خبرًا عن المبتدأ إلا كذلك، وقال بعض المحققين: لا حاجة في مثل هذا إلى التأويل لأنه في معنى الشرط والجزاء ولذا جىء في الخبر بالفاء.
ويحتمل أن يكون في محل نصب على أنه مفعول لمحذوف يفسره المذكور والفاء فيه لتضمن الشرط أيضًا؛ وفي البحر يجوز أن تقول: زيدًا فاضرب وزيدًا اضرب فإذا دخلت الفاء كان التقدير تنبه فاضرب فالفاء في جواب أمر محذوف اهـ.
وأنت تعلم أنه لا يحتاج إلى هذا في الآية، وذكر بعض الأفاضل أن الفاء فيها على الاحتمال الثاني لأن حق المفسر أن يعقب المفسر، والمراد كتابة بعد كتابة فإن في الموالي كثرة وكذا في المكاتبين فليس الأمر به للمولى بالنسبة إلى مكاتب واحد اهـ.
وهو يشبه الرطانة بالأعجمية.
والأمر للندب على الصحيح، وقيل هو للوجوب وهو مذهب عطاء وعمرو بن دينار والضحاك وابن سيرين وداود، وما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن أنس بن مالك قال: سألني سيرين المكاتبة فأبيت عليه فأتى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فأقبل علي بالدرة وتلا قوله تعالى: {فكاتبوهم} الخ وفي رواية كاتبه أو لأضربنك بالدرة ظاهر في القول بالوجوب، وجمهور الأئمة كمالك والشافعي، وغيرهما على أن المكاتبة بعد الطلب وتحقق الشرط الآتي إن شاء الله تعالى مندوبة بيد أن من قال منهم بأن ظاهر الأمر للوجوب كالشافعي لم يقل بظاهره هنا لأنه بعد الحظر وهو بيع ماله بماله للإباحة، وادعى أن ندبها من دليل آخر، وظاهر الآية جواز الكتابة سواء كان البدل حالًا أو مؤجلًا أو منجمًا أو غير منجم لمكان الإطلاق وإلى ذلك ذهب الحنفية.
وذهب جمهور الشافعية إلى إنه يشترط أن يكون منجمًا بنجمين فأكثر فلا تجوز بدون أجل وتنجيم مطلقًا، وقيل إن ملك السيد بعض العبد وباقيه حر لم يشترط أجل وتنجيم، ورده محققوهم وأجابوا عن دعوى إطلاق الآية بأن الكتابة تشعر بالتنجيم فتغني عن التقييد لأنه يكتب أنه يعتق إذا أدى ما عليه ومثله لا يكون في الحال.
واعترضوا أيضًا على القول بصحة الكتابة الحالة بأن الكتابة لو عقدت حالة توجهت المطالبة عليه في الحال وليس له مال يؤديه فيه فيعجز عن الأداء فيرد إلى الرق فلا يحصل مقصود العقد، وهذا كما لو أسلم فيما لا يوجد عند حلول الأجل فإنه لا يجوز.
وأنت تعلم ما في دعوى إشعار الكتابة بالتنجيم وأنها تضر الشافعية لأن التنجيم الذي تشعر به الكتابة على زعمهم يتحقق بنجم واحد فيقتضي أن تجوز به كما ذهب إليه أكثر العلماء وهم لا يجوزون ذلك ويشترطون نجمين فأكثر.
وما ذكروه في الاعتراض ليس بشيء فإنه لا عجز مع أمر المسلمين بإعانته بالصدقة والهبة والقرض، والقياس على السلم لا يصح لظهور الفارق، ولعل ما ذكر كالبيع لمن لا يملك الثمن ولا شك في صحته كذا قيل وفيه بحث.
وقال ابن خويزمنداد: إذا كانت الكتابة على مال معجل كانت عتقًا على مال ولم تكن كتابة، والفرق بين العتق على مال والكتابة مذكور في موضعه {إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} أي أمانة وقدرة على الكسب، وبهما الخير فسره الشافعي.
وذكر البيضاوي أنه روى هذا التفسير مرفوعًا وجاء نحو ذلك في بعض الروايات عن ابن عباس، وفسرت الأمانة بعدم تضييع المال، قيل ويحتمل أن يكون المراد بها العدالة لكن يشترط على هذا الاستحباب المكاتبة أن لا يكون العبد معروفًا بإنفاق ما بيده بالطاعة لأن مثل هذا لا يرجى له عتق بالكتابة.
وأخرج أبو داود في المراسيل والبيهقي في سننه عن يحيى بن أبي كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فكاتبوهم إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} إن علمتم فيهم حرفة، وظاهره الاكتفاء بالقدرة على الكسب وعدم اشتراط الأمانة، وهو قول نقله ابن حجر عن بعضهم، وتعقبه بأن المكاتب إذا لم يكن أمينًا يضيع ما كسبه فلا يحصل المقصود.
وأخرج عبد بن حميد عن عبيدة السلماني وقتادة وإبراهيم وأبي صالح أنهم فسروا الخير بالأمانة وظاهر كلامهم الاكتفاء بها وعدم اشتراط القدرة على الكسب، ونقله أيضًا ابن حجر عن بعضهم وتعقبه بأن المكاتب إذا لم يكن قادرًا على الكسب كان في مكاتبته ضرر على السيد ولا وثوق بإعانته بنحو الصدقة والزكاة.
وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه فسر الخير بالمال، وأخرجه جماعة عن ابن عباس وعن ابن جريج وروي عن مجاهد وعطاء والضحاك، وتعقب بأن ذلك ضعيف لفظًا ومعنى أما لفظًا فلأنه لا يقال فيه مال بل عنده أوله مال، وأما معنى فلأن العبد لا مال له ولأن المتبادر من الخير غيره وإن أطلق الخير على المال في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْرًا الوصية} [البقرة: 180].
وأجيب بأنه يمكن أن يكون المراد بالخير عند هؤلاء الأجلة القدرة على كسب المال إلا أنهم ذكروا ما هو المقصود الأصلي منه تساهلًا في العبارة ومثله كثير.
وقال أبو حيان: الذي يظهر من الاستعمال أنه الدين تقول: فلان فيه خير فلا يتبادر إلى الذهن إلا الصلاح.
وتعقب بأنه لا يناسب المقام ويقتضي أن لا يكاتب غير المسلم، وفسره كثير من أصحابنا بأن لا يضروا المسلمين بعد العتق وقالوا: إن غلب ظن الضرر بهم بعد العتق فالأفضل ترك مكاتبتهم، وظاهر التعليق بالشرط أنه إذا لم يعلموا فيهم خيرًا لا يستحب لهم مكاتبتهم أو لا تجب عليهم، وهذا للخلاف في أن الأمر هل هو للندب أو للوجوب فلا تفيد الآية عدم الجواز عند انتفاء الشرط فإن غاية ما يلزم انتفاءه انتفاء المشروط وليس هو فيها إلا الأمر الدال على الوجوب أو الندب، ومن قال: إنه للإباحة التزم أن الشرط هنا لا مفهوم له لجريه على العادة في مكاتبة من علم خيريته كذا قيل، والذي أراه حرمة المكاتبة إذا علم السيد أن المكاتب لو عتق أضر المسلمين.
ففي التحفة لابن حجر في باب الكتابة عند قول النووي هي مستحبة إن طلبها رقيق أمين قوي على كسب ولا تكره بحال ما نصه: لكن بحث البلقيني كراهتها لفاسق يضيع كسبه في الفسق ولو استولى عليه السيد لامتنع من ذلك، وقال هو وغيره: بل ينتهي الحال للتحريم أي وهو قياس حرمة الصدقة والقرض إذا علم أن من أخذهما يصرفهما في محرم، ثم رأيت الأذرعي بحثه فيمن علم أنه يكتسب بطريق الفسق وهو صريح فيما ذكرته إذ المدار على تميكنه بسببها من المحرم اه، وما ذكر من المدار موجود فيها قلنا، ثم المراد من العلم الظن القوي وهو مدار أكثر الأحكام الشرعية {وَءاتُوهُمْ مّن مَّالِ الله الذين ءاتاكم} الظاهر أنه أمر للموالي بإيتاء المكاتبين شيئًا من أموالهم إعانة لهم، وفي حكمه حط شيء من مال الكتابة ويكفي في ذلك أقل ما يتمول.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهما من طريق عبد الله بن حبيب عن علي كرم الله تعالى وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يترك للمكاتب الربع» وجاء هذا أيضًا في بعض الروايات موقوفًا على علي كرم الله تعالى وجهه، وقال ابن حجر الهيتمي: هو الأصح ولعل ذلك اجتهاد منه رضي الله تعالى عنه.
وادعاء أن هذا لا يقال من قبل الرأي فهو في حكم المرفوع ممنوع، ولهذا الخبر وقول ابن راهويه: أجمع أهل التأويل على أن الربع هو المراد بالآية قالوا: إن الأفضل إيتاء الربع، واستحسن ابن مسعود والحسن إيتاء الثلث، وابن عمر رضي الله تعالى عنهما إيتاء السبع، وقتادة إيتاء العشر؛ والأمر بالإيتاء عندنا للندب وقال الشافعية: للوجوب إذ لا صارف عنه، وصرحوا بأنه يلزم السيد أو وارثه مقدمًا له على مؤن التجهيز.
أما الحط عن المكاتب كتابة صحيحة لجزء من المال المكاتب عليه أو دفع جزء من المعقود عليه بعد أخذه أو من جنسه إليه وأن الحط أولى من الدفع لأنه المأثور عن الصحابة ولأن الإعانة فيه محققة والمدفوع قد ينفقه في جهة أخرى، وهو في النجم الأخير أفضل، والأصح أن وقت الوجوب قبل العتق ويتضيق إذا بقي من النجم قدر ما يفي به من مال الكتابة، وشاع أنهم يقولون بوجوب الحط.
ويرده قوله صلى الله عليه وسلم: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» إذ لو وجب الحط لسقط عنه الباقي حتمًا، وأيضًا لو وجب الحط لكان وجوبه معلقًا بالعقد فيكون العقد موجبًا ومسقطًا معًا، وأيضًا هو عقد معاوضة فلا يجبر على الحطيطة كالبيع، قيل: معنى {آتوهم} أقرضوهم، وقيل: هو أمر لهم بالإنفاق عليهم بعد أن يؤدوا ويعتقوا، وإضافة المال إليه تعالى ووصفه بإيتائه تعالى إياهم للحث على الامتثال بالأمر بتحقيق المأمور به فإن ملاحظة وصول المال إليهم من جهته سبحانه مع كونه عز وجل هو المالك الحقيقي له من أقوى الدواعي إلى صرفه إلى الجهة المأمور بها، وقيل: هو أمر ندب لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين بالتصدق عليهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه أمر للولاة أن يعطوهم من الزكاة وهذا نحو ما ذكر في الكشاف من أنه أمر للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم الذي جعل الله تعالى لهم في بيت المال كقوله سبحانه: {والسائلين وَفِي الرقاب} [التوبة: 60] عند أبي حنيفة وأصحابه، ويحل للمولى إذا كان غنيًا أن يأخذ ما تصدق به على المكاتب لتبدل الملك كما فيما إذا اشترى الصدقة من فقير أو وهبها الفقير له فإن المكاتب يتملكه صدقة والمولى عوضًا عن العتق، وكذا الحكم لو عجز بعد أداء البعض عن الباقي فأعيد إلى الرق أو أعتق من غير جهة الكتابة، والعلة تبدل الملك أيضًا عند محمد وفيه خفاء لأن ما أخذ لم يقع عوضًا عن العتق، أما فيما إذا أعيد إلى الرق فظاهر، وأما فيما إذا أعتق من غير جهة الكتابة فلأن العتق لم يكن مشروطًا بأداء ذلك فتدبر.
وعلل أبو يوسف المسألة بأنه لا خبث في نفس الصدقة وإنما الخبث في فعل الآخذ لكونه إذلالًا بالآخذ ولا يجوز ذلك له من غير حاجة والأخذ لم يوجد من السيد.
وأورد عليه أنه ينافي جعلها أوساخ الناس في الحديث.
ونقل عن الشافعي أنه إذا أعيد المكاتب إلى الرق أو أعتق من غير جهة الكتابة يلزم السيد رد ما أخذه إلا أن يتلف قبله لأن ما دفع للمكاتب لم يقع موقعه ولم يترتب عليه الغرض المطلوب.